قهوة الريفيرا
لازالت هناك دهشة
معرفتى بممثلى المسرح علمتنى ذلك، والسبيل إلى الدهشة هو انتظارها فقط..لا البحث عنها. هم يقولون ذلك.
ومعرفتى بعبد اللطيف كانت دائمًا دليلاً قاطعًا على أن الدهشة تحب أن تأتى أحيانًا لتجلس بين الناس. كنا نحب أن تجمعنا شقة بولاق الدكرور أنا وهو وأبو كمال حين نحب أن نبكى أو نرى ما يمكن أن يفعله الصمت بعد بكاء شديد، عبد اللطيف هو من كان يعرف من أين يبدأ الكلام وأين ينتهى، حين يطفأ هو أنوار الشقة بيده ويطمئن علينا ويغطينا وينام هو فى الغرفة الأخرى أو على كنبة الأنتريه، ولكن الظروف تغيرت الآن فقد تزوج عبد اللطيف وأنا كذلك أما أبوكمال فيقع على نفسه من الضحك كلما تذكر أن هذا حدث فعلاً. المقاهى أصبحت تلمنا الآن نحن الثلاثة مرة كل شهر مثلاً حين نحب أن نرى بعضنا ونحن فى كامل قوتنا فقط بل بكاء. صديقنا المندهش هو من اقترح مقهى الريفيرا بشارع فيصل ناحية شارع العريش، مكان يعرفه ويعرف أنه هادىء وكما يقول هو أنه مكان جديد وبيخرج طاقة إيجابية وفاتح 24 ساعة نلف براحتنا ونروح نقعد فيه شويه.
أنا وابو كمال نترك له الاختيار فنحن معًا أكثر الوقت أما هو فيجالسنا فى الشهر مرة. الريفيرا مقهى كبير ومتسع فى دور ثان فى عمارة ضخمة، ومع أنه فى مكان نظيف وغال الثمن إلا أنه مقهى كلاسيكى وطريقة تجهيزه تشبه المقاهى البلدى إلى حد كبير. كنا هنك فى الرابعة والنصف صباحًا بعد أن دخلنا سينما الهرم حفلة 12 ولفينا فى شارع فيصل حبه نحكى فى أى شىء وعبد اللطيف عزمنا على مسمط (مش عارف ليه) أكلنا وملأنا التنك تمام ولم يتبق إلا كباية شاى بالنعناع لتحبس الخزعبلات التى بلعناها.
- حبايبنا.. إيه الأخبار.. نورتو المكان.
قالها القهوجى الذى يشبه رجال خدمة العملاء فى شركة بوتاجازات وهو مبتسم ابتسامة مبالغ فيها.
جلسنا وطلبنا الشاى أبو نعناع واسترخينا فتحركت أنا فى الكرسى يمينًا ويسارًا فقال عبد اللطيف: غير يا بابا الكرسى علشان المسند بتاعه مش مظبوط عشان ضهرك يرتاح. فقلت: مش مهم بقى عادى. فصمم أن أغيره وشد كرسى من جواره وغيرت الكرسى. كنا وحدنا فى المقهى فقلل القهوجى الإضاءة شيئًا ما وحول التليفزيون من قناة Mazzika إلى قناة المجد وهدأ الصوت، نزل الشاى وهو يقول:
- نصطبح بالقرآن الكريم عشان ناخد بركة الصبح.. ولا إيه يا بشوات.
فهززت رأسى أنا وابو كمال نوافقه لينجز ويتركنا. لحظات ودخلت المقهى امرأة ترتدى عباءة سوداء لامعة بدون زراير تمسكها بإحكام من الوسط وخلفها رجل قصير فكرنى بفاروق فلوكس غير أن لبسه مبهدل، سلمت على القهوجى بحميمية وتحركت ناحية الحمام فى آخر المقهى وجلس فاروق فلوكس على طاولة وسط المقهى دون كلام. أبو كمال كان يحكى لحظتها عن محمود الخطيب وماتشات الأهلى القديمة وعن أبيه وكيف أنه كان مزاج عنده أن يلعب معه وقت ماتشات الأهلى وأبوه كان صبورًا ولا يريد أن يغضبه إلا حين يلمس الخطيب الكره فيتحول كل الصبر إلى صراخ فيه، وعبد اللطيف يقول له: يا راجل.. يااه ويضحك .. أبوك ده غريب أوى. وخرجت المرأة من الحمام يبدو أنها هى التى دخلت ولكن أصبحت ببنطلون جينز وبلوزة بيضاء قصيرة وشعرها مربوط. قبل أن تجلس كانت امرأة أخرى ترتدى نفس العباءة تقريبًا ولكن مدهولة وتظهر ألوان من تحتها دخلت المقهى ببطء وهى لا تكاد تتوازن، لم تسلم على أحد وجلست معهم وهم يتبادلون النظرات، تابعتهم لحظات ظلوا صامتين فيها ثم سرحت عنهم حتى أفقت على صوت المرأة التى دخلت وحدها تصرخ فيهما بصوتها الخشن ورأسها يكاد يلتصق بالطاولة:
- إنتوا مش كل يوم تقولولى نفس الحوار ده.
- حوار إيه يا زوبا ( رد عليها الرجل بلطف وهو يضع إصبعه أسفل وجهه)
- أنا اشتغلت وتعبت ما تجوش تقولولى النقطه والزفت ماليش دعوه بكل ده.
( كان عبد اللطيف وابو كمال قطعا الكلام وانتبها لهم معى)
صرخت المرأة الأولى:
- اخلصى يا بت مش كل يوم البقين الحمضانين دول كل واحد على قد شغله.. يا بت ده انتى بتترعشى مش بتهزى.. ده كويس ان فى نقطه أصلاً.
(القهوجى وكأنه لا يسمعه أو معتاد على ما يقولون)
قامت زوبا منتفضة وهى تدفع الكرسى للخلف بحركتها غير المتزنة:
- أنا برعش.. طب تصدقى بإيه انتى ما تفهميش حاجه فى الرقص ( كادت تقع وهى تشير لفلوكس) ولا انت كمان، ونادت على القهوجى: يا خاالد.. تعالى.. تعالى (فلم يلتفت حتى لها) فتلفتت تبحث عن أى أحد فوجدتنا أمامها قالت لهم: بلاش خالد الناس اهه.. ناس حلوه وعسل اهه ( أبعدت الكرسى واقتربت متمايلة نحونا وهى تلقى العباءة من على كتفيها فظهرت بدلة الرقص وقالت: احكموا انتوا بقى عشان مش عايزين يدونى حقى، وبدأت ترقص وتنظر لنا واحنا متنحين مش فاهمين أى حاجه ولم نقدر أن نلفظ بكلمة واحدة فصرخت فينا: هاا قولوا رأيكوا ياللا قولولها انى أحسن رقاصه فى مصر. فى هذه الأثناء كانت المرأة الأخرى قد أخرجت مالاً وضعته على الطاولة وخرجت وخلفها الرجل، والمرأة لا زالت ترقص حتى وقعت فأسندها القهوجى وأجلسها على الطاولة وهو يلفها بالعباءة واحنا متسمرين وهى لازالت تقول: قولولها بقى قولولها.
وضع القهوجى المال فى حقيبتها وكأنه معتاد على ذلك أيضًا وتركها وعاد كما كان، وساد الصمت والذهول والتتنيح للحظات تحرك بعدها عبد اللطيف من مكانه وهو يقول:
- أنا هشوف الست دى مالها. (فأمسكته من يده وقلتله)
- اقعد يا عم انت وبطل.. دى ست لاسعه احنا مش ناقصين
شد يده من يدى وتحرك نحوها وهو يقول: خمسه وجاى.
قلت لابوكمال: ياعم شوف الواد ده.. دى رقاصه ممكن تشرشحه وتفرج علينا شارع فيصل كله. وابو كمال اكتفى بمتابعته فأجبرنى أعمل زيه.
اقترب منها بهدوء. سحب كرسى وجلس كانت هى شبه نامت على الطاولة، كل ما قاله: - هو إيه اللى حصل.. الناس دى مالها بيكى.
ردت وهى فى وضعها وكأنها تنتظر السؤال:
- من يوم ما هيما مات وانا بقيت ملطشه بيودوا ويجيبوا فيا وينهشوا زى ما هما عايزين، قال تقولى بترعش ده انا أحسن رقاصه فى مصر، تعرف البت دى اللى كانت قاعده هنا دى بت جربانه ملهاش فى الرقص ولا الزفت غيرش بس هيا الدنيا اما تحكم الخلق الواطيه، عامله فيها اسطى تطلع 5 دقايق تهز وسطها وتركن على كده وانا جسمى يتكركب ووسطى يتفك باقى الليله وفى الآخر ترميلى شوية فكه وتشفط هيا البهاريز (وترفع راسها له) بقى ده يرضى ربنا.. هه.. انت احكم انت، انا برقص وحش؟ وعبد اللطيف عامل زى كائن فضائى لسه نازل الأرض ومبلم للجنس البشرى مش فاهم إيه ده، وقبل ما ينطق دخل القهوه كاوتش منفوخ على هيئة إنسان وقف على راسه وسند على كتف زوبا وقال له:
- فى حاجه يا برنس.. أأمرنى حضرتك
(كان القهوجى شاور للرجل الكاوتش وهو داخل يهدئه وتحركنا انا وابو كمال لنلحق حياة عبد اللطيف فشاور لنا القهوجى يهدئنا ويشير وهو مبتسم بأن نجلس)
قالت المرأه لعبد اللطيف الملتصق بالكرسى:
- أهه هيما جه عشان يجيبلى حقى وينصفنى عليهم، قوله يا هيما انى أحسن رقاصه فى مصر.
تحرك عبد اللطيف من مكانه وهو يتنحنح وقد شككنا أنه هيسترجع ذكريات الكونج فو لكنه تحرك إلينا وجلس فى صمت واحنا خايفين نضحك علشان الرجل الكاوتش الذى تحرك وهو يمسك بزوبا ناحية الحمام، فابتسمنا نكتم ضحكنا وعبد اللطيف ينظر للطاولة وهو يرفع نظارته بإصبعه، دقائق جلسناها مبتسمين فى صمت حتى خرج الرجل الكاوتش وزوبا فى يده أو كأنها هى ببنطلون جينز وبلوزة بنى طويله وعلى كتفيها شال أبيض وخرجا صامتين، انفجرنا فى الضحك حتى رفع عبد اللطيف رأسه وإصبعه على النظارة وهو يقول باندهاش:
- الست دى غريبه فعلاً.