محمود .. مات
(1)
وكأنى أجلس بين يدى أوراقى، أضغط جانب رأسى بكفى وأ َخرُج بعقلى من إحداثيات الغرفة المستطيلة إلى أقصى ما أتيح لى من فكر فى تلك اللحظات. أكتب فى مقدمة ورقة بيضاء "أنا أهذى إذن أنا موجود".
كنت أنوى أن أكتب عن تصنيع الفيروس وعن تجارة الدواء عالميا ،ً وكيف أنهم يبدأون بخطوات منطقية ويبحثون عن الأسباب اللائقة لوجود مصل جديد يحتاجه العالم.
كيف تخلق الحاجة؟ هذا هو السؤال. وأفكر فى إجابتهم، وأستغرق فى صمت.
كنت أنوى أن أكتب. أعرف أنها شاقة تلك الكتابة أعرف أنها موجعة. وكيف لى أن أعاندها!!
أفكر.. أنام . ولم لا، عله المخلص، رأسى يحترق، هى توحشنى أيضا ً بغير حدود أعرفها،
أؤيد اقتراحى. أنام.. وكأنه اختيار أن تُقبض روحك لبعض الوقت.
أحلم بها مرتين، صوتى يروح ويعود بعناء، أحلم بصديقتى علها فى حال ٍ ما غير جيد،
أحلم بأحد الأوفياء ممن يسبوننى ليل نهار. أحذره بشدة من أحد أعدائه.
يختلط على ّ النوم بالإفاقة العابرة، يعاودنى هذا الشغب فى أعصابى أو فى مخى على الأرجح. أنا أخاف من الأطباء. أتقلب بغير عادة، أغمس وجهى بصدرى، أحرك أصابعى بعنف ٍ شديد لتكتمل إفاقتى. رأسى يسخن و يصهد. نحن فى شتاء.
أريد أن أعترف بشىء أنى حتى تلك اللحظة كنت لا أؤمن أن البكاء سيأتينى أبدا ً.
بل حتى
كنت أخاف أن أسأل عما حدث لمحمود
(2)
الشغب العصبى أو "الشغب المخى" كما أسميه أنا
يجعلنى لا أعرف إن كنت نائما ً حقا أم لا. شىء ما أحسه لا أفهمه يشدنى ويقيد حركتى وكأنى مشلول تماما ً، غير أن أطرافى تعمل وعقلى يهدر من سرعة التفكير فى ذاك الوضع، أسمع ما يدور حولى، أغلب الظن أنى أسمعه، أعتقدها أحلاما ً فى لحظتها.قبل يومين أسمع بلا مقدمات صوت ميكروفون الزاوية المجاورة لبيتى ينقر و يخروش بحدة وبعدها بلحظة ينطلق صوت عم حمدى شيخ الزاوية بجملة واحدة يكررها و كأنه نطقها من أثر خوف ٍ. أطلقها دون وعى "محمود ابن أم عصام مات فى مستشفى الدمرداش و الدفن بعد العصر" ويصلها بهمهمات لا أذكرها ويكرر "محمود ابن أم عصام مات فى مستشفى الدمرداش........... " أفيق لأسمعها وأحرك أصابعى بعنف ولا أفيق تماما ً، وأروح فى النوم. أحلم بما ليس لى، وأذكر حين أصحو صوت عم حمدى
ولا أسأل عما حدث لمحمود
(3)
وكأنى لازلت مطمئنًا
مع أن الرواق الذى دخلته حين زرته فى مستشفى الدمرداش لم يكن إلا رواقا ً داكنا ً رأيته من قبل. ومع إن الغرفة التى وصفتها لى الممرضة مرة ووصفها لى أحدهم فى الطرقة مرة و أنا أمر عليها ثلاث مرات وأؤكد لنفسى من أمام بابها و أنا أمر بسرعة أنها ليست الغرفة طبعا ً. ليست الغرفة. فكيف لمحمود أن يكون هنا. هم فقط قالوا لى أنه يتابع علاجا ً بدأه من عام مضى، أ ُومىء لأخى فى النهاية هى تلك الغرفة، أدخل، أعرفها، أنظر إلى سرير فى أقصى اليسار، رجل فى الخمسين، أعرفه، دولاب صغير، أعرفه، تفاحة حمراء تبرق، وزجاجة عصير جوافة ممتلئة وكيس أدوية، أعرفه، ورائحة أعرفها و طيف يدور بالغرفة أحسه
-ها هى خبرة الموت، المفردات تحضرنى-
أمه الهزيلة البنية، تستقبلنى و كأنها الحياة دخلت، قصيرة مؤججة بالحزن، محمود على السرير الأيمن ينام على جانبه، مغطى حتى أخره، الملاءة تحويه وكأنه طفل فى السادسة يرقد.عظام فخذه أكاد أراها. أمه تقول بعد سؤال مختنق منى عن الأطباء وما قالوه، أن الكلى بها مشاكل "تقريبا ً فيروس"، جسمه أ ُصيب "بتيبس"، وتخفض صوتها "محمود مكتئب ولا يأخذ الدواء ولا الأكل، حاولوا معه" أصابع محمود غامقة وأظافره ملونة، وكأنه يعمل أستورجى. يختلط على الأمر فى البداية ثم أذكر كلمة تيبس، أقترب منه فيحس بى. يشد الملاءة ليغطى وجهه، فأتراجع. لا يريد أن يراه أحد، ألمح فروة رأسه بلا شعروغامقة أيضا ً، أذكر صوت أصدقائه وهم يداعبونه، أذكر الخرابة التى تدعى مستشفى الدمرداش، أذكر ابتسامته الصافية وأسنانه البيضاء المنسقة، أذكر عم شوقى و المرض الخبيث كما يقولون عنه فى مصر.أذكر كذب الأطباء وخداعهم. أذكر أمه الطيبة حقا التى قالت أنه سيخرج بعد أيام
أضع قدمى على أخر درجة سلم وأنا أستدعى دقة صوت فيروز"أنا صار لازم....."
وأراجع رقم 22 وكيف أنه متناسق، وأردد22سنة
أراجع وأنظر إلى الخرابة خلفى وأطبق قدمى على الأسفلت ليبلعنى ميدان العباسية