شكلى مصرى
دائمًا ما كان يبتسم ويقول لى: (إنت شكلك مش مصرى). كان مقتنعًا تمامًا أنى أشبه الأسيويون من الباكستان أو الهند أو ماليزيا.. لا أعرف لماذا، ولا أجد أسبابًا لذلك. رغم أن ملامحى تشبه الفراعنة القدماء –على حد وصف زاهى حواس لوجوه الفراعنة- أعتقد أنى لم أكن أفهم تحديدًا ما يقصد ساعتها. لكنى فهمت الآن.
أحاول أن أتخطى شارع الأزهر بوسط البلد.. فى طريقى لإحدى شركات الشحن للمحافظات.. كنت دائمًا ما أستمتع برؤية المعمار الإسلامى القديم فى بعض منشآت هذا الشارع من مساجد وبيوت قديمة، رغم الزحام الشديد. لكنها الذكريات التى تحملنى فوق الزحام، وتضع أمام عيني صورتى مع أبى وعائلتى ونحن نمر إلى طريق مسجد الحسين. كنت أحس وانا فى يده ورأسى بعد ركبته بقليل أن العالم كله فى هذا الشارع. البنايات والمقاهى والمساجد والمحلات وبائع العرقسوس والساقى الذى يحمل القربة، ماء الموَّرْد. كان يتملكنى ساعتها شعور بأنى فى عالم سحرى وانى أرى المماليك والجند القدماء وشاهبندر التجار والأقمشة الحريرية وعربات الخيول وصوت جارية الأمير الذى يطرق أذني وأجول بعينى لأبحث عنها فألمحها مطلة من عربة وحولها الحراس.
شارع الأزهر وأنا. وكل ما لا يراه الناس. أسير الآن بين تلك الكتل من البشر بين بائع السجاد ومحل عصير المانجو. لا أرى فرقًا بينهما. تطرق عقلى فى تلك اللحظة كلمات صديقى القديم عن أنى لست مصريًا. أداول الكلمات وأستعين بخيالاتى وأفكر. أسحب قدمى لأعلى حتى لا أدهس يد احد الشحاذين ممن لديهم القدرة ان يتمددوا بأجسادهم بين هذا الزحام. أقول فى نفسى:(ماذا كان يقصد؟) وانحنى حتى لا تضيع رأسى بكارتونة يحملها أحدهم على كتفه ويمر فى اتجاهى. أفكر.. لا أشبه الباكستانيون او الهنود. شعرى خفيف ولا يميل إلى السمرة الداكنة. أفادى إمرأة كادت تصعد فوق قدمي. وأفكر.. هل كان يداعبنى فقط أم يسخر منى؟. ألمح مرآة كبيرة وضعت بزاوية مائلة فى واجهة أحد المحال. أرى فيها وجهى وجسدى وسط الآخرين حولى. تهدأ خطوتى حتى أكاد أتوقف تمامًا وأتأمل.. واجعل صوت الضجيج فى الهامش. أنظر إلى وجهى المجهد. أتفحصه. وملابسى المتربة. وعروق رقبتى التى ظهرت أمامى. نظرت ببطء إلى البشر من حولى. فرغت الصورة من الصوت وقارنت ملامحنا جميعًا فلم أجد ما يفرقنا.. لا فى الوجوه المجهدة ولا الملابس المتربة المتهدلة ولا فى عروق الرقاب التى ظهرت جلية. رددت فى داخلى: (كان يسخر منى.. نعم.. انا شكلى مصرى جدّا.. مصرى)
وكأنى أرى الآن صديقى يقف أمامى ويلوى كفه تحت ذقنه ويضحك. وكأنى أسمعه وهو لازال يسخر منى ومن دهشتى مما اكتشفته الآن فقط.. ويقول بصوت يهز شارع الأزهر:
"أخيرًا ستصمت عن حكاياتك التى تراها وحدك".