الجمعة، مايو 22، 2009

حرية بارك

حرية بارك




أنا من مواليد ميت عقبة. ولا زلت أحب هذا المكان وأحن له حتى بعد أن انتقلت إلى إمبابة ثم إلى 6 أكتوبر الآن. لازلت أذكر ميت عقبه وشارع الغريب وشارع المشروع والصحفيين، وأذكرها أكثر فى وقت الروقان كما يقولون، حين أحب أن أجالس أصدقائى لنحكى فى اى شىء إلا الشغل لنفرغ ما لدينا من ضغوط، وبما أنى عرفت أبو كمال على كبر فكان علىّ أن أحكى له عن ميت عقبة وأهلها الطيبين وعن مولد سيدى الغريب الذى كان يتحول إلى احتفال شعبى كل سنة وأحكى له عن مطعم سوسو والطعمية بالسمسم السخنة وعصير القصب باللبن وعن كشرى حمادة، وكان عليه بدوره –بعد أن يسمع كل الحكايات- أن يطلب إلىّ أن نذهب لنجلس هناك ولو على مقهى لنستمتع بهذا الجو الإنسانى الجميل.


شارع المشروع كان هادئًا هذا اليوم كما هو دائمًا وأكثر، طوال الطريق كنت أشكر أبو كمال لأنه جعلنا نأتى إلى ميت عقبة، فرجته على مدرستى الثانوى وعلى بيتنا القديم، ثم تحركنا نبحث عن مقهى. "الحاج عصام أبو وهبة عضو المجلس المحلى يشكر أهالى العجوزة الكرام وجميع القيادات الشعبية والحزبية على الثقة الغالية.. وكل عام وأنتم بخير". كانت اليافطة الإعلانية على الرصيف بصورة رقيقة بالشنب للحاج عصام وهبة مبتسمًا، وعلى الناصية مقهى كلاسيكى هادئ له طابع تراثى، الطاولات والكراسى من الخشب المشغول بالأرابيسك والجدران مقسمة بشكل الحجارة الكبيرة. إلى الجانب كان يجلس رجل بشنب على مكتب صغير وجواره شيشه، يشبه الرجل على اليافطة الإعلانية وكأنه هو. جلسنا، كانت ثلاث طاولات فقط هى المشغولة، أبو كمال يتفقد المكان وينظر إلى الحاج أبو وهبة وإلى شنبه العظيم، فى حين أنظر أنا بتأثر إلى جدران المقهى وأتشمم رائحة المكان وأبحث عن عبق التاريخ والذكريات، لا نسمع صوتًا فى المقهى غير صوت التليفزيون الخافت وصورة قناة art الرياضية. نبدأ أنا وأبو كمال كالعادة من نصف الحكاية أو الموضوع وكأنه تدريب على الارتجال، أنا وهو والحكايات عن أى شىء فقد اتفقنا أنه لا حديث عن الشغل الليلة، الطاولات تمتلئ واحدة بعد أخرى والصوت يرتفع شيئًا فشيئًا ليغطى على art، وبدأنا نسمع صوت زهر الطاولة حتى تحرك صوت الحاج أبو وهبة من مكانه:
- الصوت يا رجاله.. إلعبوا من غير صوت يا بلاش لعب خالص
وكانت هذه هى البداية فقط وبعدها آنسنا صوت أبو وهبة كثيرًا، كلما علا صوت سواء بكلام أو بضحك نسمع موسيقى الحاج عصام:
- صوتك يا أستاذ.. بلاش الصوت العالى بعد إذنكم
ولا يرد أحد. أبو كمال بدأ يقلق وأنا عامل نفسى مش واخد بالى وأبتسم بكسوف لأبو كمال الذى يريد أن يقول لى حاجه مش لطيفه ويمنع نفسه. صوت أبو وهبة بدأ يزمجر فى اتجاه أحد الطاولات:
- أنا مش قلت الصوت؟ هو البهوات مابيفهموش عربى ولا إيه؟
وبدأ الرد:
- إيه يا حاج؟ إحنا صوتنا مش عالى.. وبعدين دى قهوه مش جامع
- جامع مش جامع وطى صوتك انت وهو يا إما اتفضلوا من هنا
- إحنا قاعدين بفلوس مش ببلاش عشان تقولنا اتفضلوا
وهنا انقطع الشريط بنفره من الحاج عصام أبو وهبة:
- فلوس إيه يا ابو فلوس
(ووجه رأسه ناحية النَصَبَه)
- يا خالد.. اقفل على باقى المشاريب هنا وما تاخدش حاجه م البهوات.. شكرًا اتفضلوا.. شيل يا ابنى الطاوله دى
قبل أن يردوا حتى كان وقف وأشار بيده إلى الخارج، فخرجوا بدون صوت. أنا غرقان فى هدومى من أبو كمال الذى ينظر لى ويمنع ضحكته الأسطورية ويريد أن يقول "ناس طيبين فعلاً ويغنى لى أغنية الترابط الاجتماعى: وردى وردى وردى وردى وردى " فبادرته:
- أهل منطقه واحده.. منهم فيهم.. شايف احترموه ومشيوا علطول ازاى
فضحك أبو كمال وقال:
- أيوه.. أيوه شايف
ففاجأه صوت أبو وهبة:
- وبعدين بقى فى اليوم ده.. إطفى السوجاره دى يا كابتن.. الدخان عبأ المكان
- يا حاج سوجارة إيه؟ مش كفاية مافيش شيش فى القهوه؟
- إطفى السوجاره يا تشربها بره.. ما تقوليش شيش وبتاع وتغير الكلام
تحرك الشاب وهو يقول له:
- أنا مش قاعد هنا تانى.. شكرًا يا حاج
- الشكر لله يا كابتن.. شيل يا ابنى باقى الطاوله من كل الترابيزات، إحنا مش ناقصين وش.. اللى عايز يقعد.. يقعد هادى ورزين

تحرك أبو كمال فى مكانه ونفخ فى وجهى بضيق –وأنا عامل عبيط- ولا أجد ما أقوله بعد كلام الحاج أبو وهبة وأفكر فى نفسى فى هذه الصدفة السيئة التى ستقطع رجل أبو كمال من هذا المكان، قال أبو كمال:
- مش ياللا بينا ولا انت مستنى دورنا
قلت بسرعة وبصوت منخفض:
- يا عم إحنا مالنا.. إحنا زى الفل لا بنلعب طاوله ولا بندخن ولا بنتكلم بصوت عالى، يعنى الحياه جميله.. مالوش دعوه بينا
كان أبو وهبة واقف فوق روؤسنا ويقول:
- يا مرحب بالأساتذه المحترمين
فانتفضنا ورددنا فى صوت واحد:
- ربنا يخليك يا حاج
- شوف يا خالد الأساتذه تشرب إيه (وأشار للقهوجى)
- شكرًا يا حاج شربنا
- تانى.. ده انتو ناس محترمين وأول مره تقعدوا عندنا.. شوف يا خالد (وتحرك إلى لسانه)
فردت صدرى وقلت لأبو كمال:
- شفت الناس؟ مش قلتلك؟ إحنا كده فرخه بكشك عنده، لا تدخين ولا لعب ولا صوت عالى
شربنا وعدنا كما كنا، والمقهى تقريبًا لم يعد به أحد إلا نحن فهدأ الرجل تمامًا يدخن الشيشه ويتابع التليفزيون، وظل الوضع هكذا حتى إتسحب أبو كمال من لسانه وقال ولا أعرف ما المناسبة:
- عايزين نروح الاستاد بعد بكره
- ليه؟
- ليه إيه يا عم النايم.. ماتش الأهلى وطلائع الجيش ويعتبر نهاية الدورى سواء اتعادلنا أو فوزنا هناخد الدورى فى الماتش ده
- طب فل.. نروح بس على الله الجمهور يعمل زى كل مره
- كل مره إيه.. هو مافيش إلا يوم ماتش الزمالك اللى فات.. ومش جمهور الأهلى اللى بدأ شتيمه وكان كله بسبب الواد شيكابالا أما وقف قدامنا وعمل حركات وسخه بإيديه.. هيج الجمهور
- أيوه يا عم بس جمهور الأهلى محترم كان لازم يفهم انه بيستفزه.
أبو كمال اتشد وقال بعصبيه مااعتقدش كان وقتها خالص:
- الزمالك ده فريق بوابين أساسًا وجمهورهم اتعلم منهم.. دول كل ماتش يعملوا كد...
حاولت أقاطعه ليخفض صوته لكن سبق السيف كل حاجه، ووقف أبو هبه ملوحًا بيده وهو يتحرك نحونا بالتصوير البطىء وشنبه يهتز وهو يصرخ بشلاضيمه وأنا أتخيله مثل محمد رضا فى فيلم 30 يوم فى السجن بعد أن أكل الرز بلبن بالشبًّه ويشير بيده خارج المقهى ويقول:
- إ طـ ل ل لـ عـ و ااا بـ رررره
بـ رررررررررره
قبل أن يصل إلينا كان أبو كمال قفشنى من قفاى وخرج من المقهى وهو يتحفنى بكل ما لديه من رقه وعذوبه، ولم يكن محمد رضا قد انتهى ولكن بطريقه أسرع وكان قد خرج من المقهى ووقف إلى جانب صورته على اليافطه الإعلانية، بحلق لها للحظه وابتسم ثم عاد لتكشيرته وصرخ بنفس هزة الشنب:
- زمالك إيه يا معـ...... ده احنا هنمسح بيكو الأرض.. قال أهلى قال، ده احنا هنقلعكوا هدومكوا.
وظل يصوصو بشلاضيمه الرقيقه حتى خرجنا من ميت عقبه.